أخر الاخبار

متى ضاعت القدس؟
--------------
من يعتقد أن القدس قد ضاعت يوم الأربعاء الماضى فى تمام الساعة الثامنة مساءً واهم. القدس ضاعت منذ زمن.. ومنذ سنوات من يريد الذهاب إلى القدس لا بد أن يختم جواز سفره بتأشيرة «تل أبيب».. ومنذ سنوات أيضاً والقدس عاصمة إدارية لإسرائيل بها كل الوزارات والهيئات المهمة والسفارات. كل ما حدث يوم الأربعاء هو إعلان رسمى بأنها العاصمة الأبدية التاريخية الدينية لإسرائيل. وإسرائيل تكذب من يوم ميلادها فى 14 مايو 1948 وتدّعى تاريخاً غير حقيقى وتدّعى حقاً ليس لها، وأمريكا خلفها تلهث لإرضائها بعد أن تحولت إلى دولة محتلة من إسرائيل. أمريكا الآن مثل العلبة الملونة البرّاقة المبهرة ولكن داخلها يقبع رجال كونجرس يهود ورجال مال يهود ورجال سلاح يهود ورجال إعلام يهود يحتضنون حق «الفيتو» الشهير ويشيرون لأمريكا أن ترفع هذا الكارت الأحمر فى وجه من يريدون فترفعه صاغرة.. حوّلوا الأمم المتحدة إلى كذبة عاجزة، وحوّلوا مجلس الأمن إلى «خيال مآتة»، وضربوا بكل القوانين عرض الحائط، وسخّروا الولايات المتحدة فى خدمتهم، وهذه هى الصورة الآن. متى ضاعت القدس؟ هذه هى قضيتنا نحن.. العرب. ضاعت القدس يوم أن هاجر إليها اليهود أفواجاً بعد وعد «بلفور» الشيطانى عام 1917، وبعد أن أخذ اليهود الأموال من بلاد الأمريكان وجاءوا يلوّحون بها للشعب الفلسطينى الذى ابتلع الطعم وباع الأرض. ضاعت القدس يوم أن تآمر الأمريكان فى مؤتمر المائدة المستديرة لتقسيم فلسطين عام 1947 ومنعوا الدول التى توقعوا أنها ستصوت ضد قرار التقسيم من الوصول إلى مبنى الأمم المتحدة.. ضاعت القدس يوم مذبحة «دير ياسين» التى تعلّم منها الدواعش كيف يكون القتل والترويع، ولم يستغل العرب الحدث دولياً، ولم يروّجوا له مثلما فعل اليهود فى المحرقة، وهى فى مجملها بها كثير من الكذب.. ضاعت القدس يوم أن خدعت «جولدا مائير» الملك عبدالله ملك الأردن وأقنعته بأن ينسحب بجيشه من «اللد والرملة» وسوف يكافأ بأن يكون ملكاً على القدس، وانسحب وهُزمنا فى حرب فلسطين، وضلّلنا أنفسنا بأكذوبة الأسلحة الفاسدة وصدقناها، ولم يصبح الملك عبدالله ملكاً على القدس، بل تم اغتياله فى المسجد الأقصى عام 1951.

ثم ضاعت القدس فى 5 يونيو عام 1967، وضاعت معها غزة والجولان والضفة وسيناء بأكملها. وبعد ست سنوات عبرنا القنال فى أكتوبر واستعدنا كرامتنا المهدرة وحطمنا الصلف الإسرائيلى وأسطورة التفوق التى توهّموها، وأصبحنا فى مركز قوة سار بنا إلى «كامب ديفيد»، ولولاها ولولا السادات العبقرى العظيم لكان نصف سيناء محتلاً إلى الآن، وربما كان يوم الأربعاء الماضى يوماً لإعلان «شرم الشيخ» عاصمة أبدية تاريخية لإسرائيل. ولكن.. ماذا فعل العرب مع السادات؟ مقاطعة شاملة.. هتفوا ضده.. اتهموه بالخيانة وقال راديو سوريا إنه يوم أسود، ونقلوا الجامعة العربية، وعاشوا فى وهم تحرير الجولان وفلسطين ورفض اتفاق السلام. عندما جلس السادات إلى مائدة المفاوضات طالب باستعادة الأراضى المحتلة كلها للأردن وسوريا وسيناء وإقامة حكم ذاتى لفلسطين كبداية لوجود دولة مستقلة، واستمر الرفض، وابتعد العرب، وابتعد عرفات، وظل مقعده شاغراً فى «ميناهاوس» وأضاع الفرصة الأخيرة. واضطر السادات إلى أن يوقع الاتفاقية ويستعيد أرضه، ورفع العلم فى العريش، وكان ينتظر 25 أبريل عام 1982 ليرفع العلم فوق سيناء كلها، ولكن دفع حياته ثمناً لشجاعته وجرأته السياسية الفريدة، وعادت لنا طابا بعد ذلك بست سنوات من المحكمة الدولية. ومضى على هذه الاتفاقية 38 عاماً، والنتيجة أن ضاعت الجولان إلى الأبد وتقلصت أراضى فلسطين تحت جحافل المستوطنات حتى أصبحت «غزة» وجزءاً صغيراً متآكلاً فى «الضفة الغربية»، وضاع الباقى من القدس على يد «حماس» التى أعلنت الجهاد والمقاومة ضد منظمة التحرير الفلسطينية (فتح)، وهى الممثل الوحيد الشرعى للفلسطينيين، وقتلت منهم الكثير، ولم تصوب سلاحاً ضد إسرائيل، واستولت على غزة، وانقسمت السلطة الفلسطينية المتبقية.. وانتهت القدس عندما جاء «الربيع العبرى»، وتم تدمير الجيوش العربية، واشتعل القتال فى سوريا وليبيا واليمن والعراق، وتحولت البلدان العربية إلى فتات يأكل بعضها البعض، وموّلت أمريكا الإرهاب، وقادته إسرائيل والعملاء من الدول العربية وتركيا، وظهر لنا الدواعش بعد أن تحطم الربيع الأسود على أعتاب مصر، وما زال يتدفق إلينا بمباركة الأمريكان وتمويل قطر. وفى هذا الجحيم العربى كان الوقت المناسب جداً لأمريكا وأعلن «ترامب» اعتراف أمريكا بالقدس عاصمة أبدية تاريخية دينية لإسرائيل، وقرر نقل السفارة الأمريكية إلى هناك فى ظرف ستة شهور.. وأعلن نتنياهو فى سعادة وبرود أن هذه الخطوة هى الأولى فى طريق السلام.

دعونا من الولولة والهتاف بالقدس العربية.. دعونا من الأغانى والرفض والشجب والتنديد والتصويت على «تويتر».. دعونا من كل هذا، فالواقع مخيف.. الدول العربية الآن منها من يحتضن قواعد عسكرية أمريكية، ومنها من يستضيف قوات أمريكية، ومنها من يقاتل بعضه بعضاً، ومنها من يبيع الجميع بالأموال، ومنها من يلملم جراحه.. لن يتوحد أحد لاستعادة القدس، فالجميع منكبُّون على مشاكلهم.. قُضى الأمر والبقاء للأقوى. لدينا أمل وحيد فى النشء الصغير أن نتكاتف لنحكى لهم ونعلمهم كيف كانت المأساة وكيف كان التقصير ومن أين جاءت الهزائم ومَن أضاع القدس.. نعلمهم حتى إن شبُّوا ظلوا يرددون أن هناك فى أرض كنعان الفلسطينية دولة مجرمة غاصبة سطت مثل اللصوص على أرض عربية، واستولت فى غفلة منا نحن على قبلة الأديان ورمز العروبة الضائعة.. نعلمهم أن الحلم الأمريكى كذبة كبرى، وأن كل الشرور تأتى من خلف المحيط يظلها العلم الأمريكى وهو يرفرف كوجه الشيطان القبيح. الحلول الإسلامية للقدس
-----------منذ قرار ترامب نسمع فيهما مجدداً هؤلاء الذين يقولون لنا، إن ما جرى فى ملف القدس حدث بسبب بُعد المسلمين عن الإسلام وعدم قيام الدولة الإسلامية فى بلاد العرب، إنها التجارة القديمة نفسها التى ضيعت هذه الأمة قرونا سحيقة، التكفيريون ونظراؤهم من جماعات الإرهاب لا تريد القدس ولا تحن قلوبهم للمسجد الأقصى، لكنهم يدمنون تجارة السلطة، واستغلال المقدسات للحرب على الأنظمة العربية.
 
تجارة رخيصة بالمقدسات يصرفون بها أنظار المسلمين عن جوهر القضية، ويضللون الناس لتسويق بضاعتهم بأن كل ما نحن عليه غير إسلامى، وأننا لو عدنا إلى الإسلام «النسخة الخاصة بالإخوان وداعش» فستعود لنا كرامتنا الضائعة.
 
تضليل مستمر ينبغى أن نحاربه مبكراً فى الداخل كما نحارب لحماية القدس فى الخارج.
 
هذه هى الحرب الكبرى فى تقديرى، وكنت قد تصديت لها فى مقال سابق حول العلاقة بين الدولة الإسلامية والدولة المدنية وأقول لكم بوضوح، لو كان نبى الله محمد - صلى الله عليه وسلم - بيننا لم يكن ليرفع المصاحف على أسنة الرماح دفاعاً عن القدس، لكنه كان سيفكر ويخطط للأدوات التى نمتلكها فى المواجهة، النبى محمد - صلوات الله عليه - لم يكن يحارب بالدعاء وحده، أو بالتمييز بين ما هو إسلامى وما هو غير ذلك فى فنون العمل السياسى والعسكرى. 
 
من قال لك يا أخى، إن الدولة الإسلامية تقف على طرف نقيض مع المدنية والليبرالية والحداثة والعلم والتطور، انظر أنت إلى الاستراتيجية التى اعتمد عليها النبى محمد - صلى الله عليه وسلم - فى تأسيس دولته البكر فى يثرب، انظر وتأمل لتعرف أن محمدا النبى كان رمزا للمدنية والحداثة، وكان رسولا للعقل والتنوير، وكان قائدا سياسيا يعرف الحدود التى يقف عندها الوحى ليعمل عندها العقل، ويعرف هو وصحابته الكرام من بعده الأسوار التى لا يجوز للعقل أن يتجاوزها احتراما للوحى وتقديسا لكلمة الله العليا.
 
ما فعله النبى محمد صلوات الله عليه فى المدينة المنورة هو إعجاز مدنى وسياسى فى بيئة كانت قد خاصمت العقل ووهبت نفسها للبداوة والجهل، ولا يعقل أن يكون المطروح حاليا من مشروعات ينسبها أصحابها، وهمًا، إلى الإسلام، هى التى تدعو إلى البداوة والجهل لا إلى العقل والمدنية والعلم.
 
 رسول الله كان يستجير بالكافرين ضد الكافرين فى مرحلة الدعوة الأولى على أرض مكة المكرمة، كان الواقع يفرض عليه أن يستنصر بأحد الكافرين فى مواجهة جحود مشركى قريش وغلظتهم على النبى، ولو فعلها أحد من المسلمين الآن لطاردته حملات التكفير حتى أخرجته من الملة وحكمت عليه بالموت.
 
 رسول الله هو الذى أرسل الجيل الأول من المسلمين إلى الحبشة ليكونوا فى حماية حاكم مسيحى لدولة مسيحية، ولو فعلها أحد من المسلمين اليوم لشكك الأصوليون الجدد فى عقيدته وطعنوا فيه بمقاييس الولاء والبراء.
 
 رسول الله هو الذى رسم وحده خطة الخروج من مكة إلى المدينة، وعقد التحالفات مع أهل يثرب سرا قبل أن ينقل تحالفه معهم إلى العلن، ولم ينتظر البراق ليحمله شمالا حيث يثرب، ولم ينتظر جبريل - عليه السلام - ليقوده فى الصحراء، كانت الهجرة توجيها إلهيا، لكن التخطيط والتنفيذ كان فعلا بشريا خالصا.
 
 رسول الله هو الذى خطط لمشروع «المواطنة» فى يثرب بمؤاخاته بين المهاجرين والأنصار، وبتحالفاته المتعددة مع اليهود داخل المدينة.
 
 رسول الله هو الذى قرر ملاقاة جيش قريش فى بدر بعيدا عن حدود دولته الوليدة ليحمى النساء والأطفال، ويحمى المكسب السياسى الذى أشعل قلوب مشركى مكة بالغضب والحسرة.
 
 رسول الله هو الذى أقر علنا أمام صحابته أنه لا علاقة للوحى بهذه الحرب، حين أمر بأن يخيم جيشه قبل بئر بدر، وحين سأله بعض صحابته إن كان هذا القرار من الوحى أم أنها الحرب والمشورة، فقال: صلوات الله عليه: «إنها الحرب والمشورة»، ونزل عند نصيحة صحابته الخبراء فى الحرب، وعسكر بعد بئر بدر، ليحرم جيش المشركين من ورود المياه.
 
 رسول الله هو الذى عانى من هزيمة قاسية فى «أحد»، بعد أن خالف الجنود خطته الحربية فى مواجهة جيش قريش، لم يكن للدين الجديد ولا للوحى علاقة بالهزيمة، كانت الخطط والتنفيذ هى نقاط القوة أو الضعف فى المشروع النبوى للاستقرار السياسى فى دولته الحديثة.
 
 رسول الله هو الذى قرر حفر الخندق حول المدينة ليحمى دولته خوفا من بطش جيوش «الأحزاب»، ولم يترك الأمر للملائكة، ولم ينتظر الوحى ليقرر ما هو الأصلح لأهل يثرب فى مواجهة هذا الجيش الغازى.
 
 رسول الله هو الذى وقع صلح الحديبية الذى نص على أن كل من يسلم من أهل قريش يجب أن يبقى فى قريش ولا يقبله النبى إن هاجر إلى المدينة المنورة، وأن كل من يكفر من أهل المدينة يجب أن يسمح له النبى بالعودة إلى قريش بلا أذى، ولو أن اتفاقا بهذا المحتوى وقعه زعيم سياسى مسلم اليوم لخرج عليه قومه بالثورة «دفاعا عن كرامة الدين»، ولاغتاله حرسه الخاص أو حفنة من جنوده.
 
 رسول الله هو الذى قال لأهل يثرب: «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، ولم يقحم الدين فى الزراعة والتجارة واقتصاديات الدولة وفنون الحكم والإدارة والحرب، وهو الذى اعتمد العقل والعمل فى إنشاء دولته الحديثة، ولم يخرج صحابته عن نهجه العقلانى العلمى فى الإدارة، فكان الإسلام أصلا واحدا، وكانت اجتهادات الصحابة بالغة التنوع فى أشكال الخلافة، وفى طبيعة الأعداء والأصدقاء، وفى صور الإدارة المالية والسياسية بين أقطار الأمة الإسلامية.
 
من يجرؤ بعد ذلك أن يجعل الحل السياسى مناقضاً للحل الإسلامى، وكأن الإسلام لا يعرف الأولويات التفاوضية وحسابات المكسب والخسارة وفنون تحقيق الأهداف الدينية والوطنية بالجدارة العقلية والتفاوضية، ومن يجرؤ بعد ذلك أن يقول إن هذا القرار السياسى من الإسلام، وهذا القرار السياسى ليس من الإسلام؟ ومن يجرؤ بعد ذلك أن يتصور أن دين الله وسنة نبيه أرادا لنا نهجا جامدا جافا بلا إدراك للمصالح المرسلة للمسلمين، وبلا فهم لما أراده الله لنا من رقى بالعقل والعلم؟
الإسلام نفسه هو الدين العقلى الليبرالى المدنى بشهادة التاريخ، والصحابة أنفسهم بتنوعهم فى أشكال الحكم والإدارة برهنوا على أن الوحى لم يأمرنا بأن نتبع نهجا دون غيره، لكنه أراد لكل ما نسلكه من طرائق شتى، وسبل متعددة فى بناء الدولة وتنظيمها وتحديثها أن نتحرى العدل، وأن نزن الأمور بالقسطاس المستقيم.
 
أقول لك.. كلما غاب العقل وتاجر سياسيون باسم الله وباسم العدل.. فاعلم أنه لا إسلام ولا دولة إسلامية!!
وأينما كان العقل والعدل معا فأنت فى رحاب دولة الإسلام.
 
وكلما خططنا بحكمة وعقل وضغوط محسوبة فسننتزع حقوقنا فى القدس دون أن يضللنا تجار القدس.
تعليقات
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق



    وضع القراءة :
    حجم الخط
    +
    16
    -
    تباعد السطور
    +
    2
    -