*عماد عنان
أعلنت عدد من القوى السياسية والحركات المسلحة في السودان، أمس السبت، عن توقيع ما سمي "ميثاق التوافق الوطني" كخطوة أولية نحو توحيد قوى الحرية والتغيير ( الحاضنة الثورية السياسية للمكون المدني في البلاد)، في خطوة أثارت الكثير من الجدل والتخوفات لدى الشارع السوداني.
وخلال مؤتمر عقد بقاعة الصداقة بالعاصمة الخرطوم كشف أكثر من 20 كيانا سياسيًا وحزبيًا وحركة مسلحة، منشقة عن قوى الحرية والتغيير، النقاب عن هذا التحالف الجديد الذي يأتي في سياق التوتر الراهن بين المكونين المدني والعسكري في قيادة المرحلة الانتقالية، الأمر الذي حمل معه الكثير من الشكوك، ومن أبرز المشاركين في هذا الكيان حركة تحرير السودان بزعامة مني أركو مناوي، وحركة العدل والمساواة بزعامة جبريل إبراهيم.
يتزامن هذا التحرك مع موجة ثورية جديدة دعت لها بعض القوى على رأسها "تجمع المدنيين السودانيين" أحد الكيانات الثورية المنشقة عن التحالف، للمطالبة بالالتزام بمسارات ثورة ديسمبر/كانون الأول، على رأسها مدنية الدولة، ورفض الخضوع للمكون العسكري أو إشراكه في عملية الحكم خلال المرحلة المقبلة.
الخطوة فتحت الباب على مصراعيه أمام كافة التكهنات وسط تراشق متصاعد بين المكونين، المدني والعسكري، وسجال يعتبره البعض محاولة من جنرالات السودان تغيير خارطة التحول الديمقراطي التي أقرتها الوثيقة الدستورية الموقعة في أغسطس/آب 2019 والتي بمقتضاها تؤول رئاسة السلطة للمدنيين بعد انتهاء فترة العسكر المقرر لها نوفمبر/تشرين الثاني القادم.
انقسام سياسي
هذا التحرك يجسد وبشكل واضح حالة الانقسام الكبيرة التي تخيم على الأجواء داخل تحالف الحرية والتغيير والذي يعاني من شروخات حادة خلال الأونة الأخيرة بسبب الانسحابات المتتالية للعديد من القوى المعترضة على ما أسماه "الارتماء في أحضان العسكر" بجانب استراتيجية الاستئثار بالسلطة والتفرد بالقرار، كما يتهمه المناوئون له.
حاول هذا الكيان الثوري، المكون الأكبر للشق المدني في السلطة الانتقالية، تجنب الوصول إلى هذا المنعطف الذي قد يضع الحكومة الحالية في طريق مسدود، وذلك حين وقعت مجموعة يقودها المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، على إعلان سياسي، في التاسع من سبتمبر/أيلول الماضي، لتوحيد التحالف، ودعم الانتقال وبناء دولة المواطنة المدنية الديمقراطية.
هذا الانقسام الذي خرج للنور بتوقيع هذا الإعلان الجديد، رغم ما يثار بشأن أن الهدف منه توسيع الحاضنة السياسية للتحالف، لاشك وأنه سيؤثر بصورة أو بأخرى على أداء الحكومة التنفيذية التي تواجه تصاعدًا ملحوظًا في منسوب الاحتقان الشعبي جراء فشلها في التعامل مع الملفات الحياتية من جانب، والتشويه المتعمد من المكون العسكري من جانب أخر.
استمرار الوضع على ماهو عليه وفق تلك المتوالية السياسية المشتتة، ستقود البلاد حتمًا إلى حالة من السيولة السياسية الأقرب للفوضى، الأمر الذي ربما ينعكس على الفترة الانتقالية الحالية ويجعل من مد أجلها أمرًا حتميًا يضع مستقبل البلاد على المحك في ظل الأزمات المتصاعدة بسبب طول تلك المرحلة.
بدوره رأي "تجمع المهنيين السودانيين" ( أحد الكيانات المنشقة عن تحالف الحرية والتغيير) أن ما حدث داخل قاعة الصداقة بالأمس يهدف لخلق أزمة قانونية ودستورية حول من يمثِّل قوى الحرية والتغيير، رغم اتهامه للأخيرة بأنها من بدأت "هذا النهج من الإقصاء، منذ انفرادها بالقرار في التحالف وعزلها كل من لا يوالي خطها الملتف على مطالب ثورة ديسمبر/كانون الأول".
التجمع وفي بيان صحفي له على صفحته دعا إلى ”التوافق على ميثاق للانتقال الديمقراطي يتأسس على المبادئ العامة لسودان الغد المستلهمة من شعارات الحرية والسلام والعدالة، وإزالة كل أشكال سوء الفهم والحواجز المصطنعة أمام بناء منصات أفقية للتنسيق الفعال بلا هواجس أو صراع حول القيادة، بهدف فتح طريق البلاد نحو انتقال كامل لدولة الديمقراطية والكرامة“.
تهديد للمكون المدني
الفريق المعارض لهذا التحرك يرى أن خطوة كهذه من شأنها أن تهدد مستقبل المكون المدني وتمهد الطريق للجنرالات نحو تغيير خارطة الانتقال الديمقراطي والبقاء في السلطة حتى انتهاء المرحلة الانتقالية، وهو ما يخطط له العسكر منذ انخرطهم كمشاركين في الحكم رغم الاعتراضات على ذلك بداية الأمر.
أنصار هذا الرأي يميليون إلى الرواية التي تذهب لرعاية ودعم المكون العسكري لهذا الكيان الجديد، ليس من قبيل توسيع الحاضنة السياسية الثورية كما يقال، لكن بهدف بث روح الفرقة والتشتت داخل الجسد الثوري المدني الذي بات حجر العثرة الوحيد أمام استتباب الحكم للعسكر إلى ما لانهاية.
وتتلاقى أجندة الجنرالات مع فلول نظام الإنقاذ في تشويه صورة الحكومة الحالية بقيادة عبدالله حمدوك، وهو ما يمكن قراءته في أكثر من مشهد، لعل أبرزها فجاجة ما يحدث في المنطقة الشرقية، حيث الاحتجاجات المشتعلة منذ أسبوعين في تلك البقعة الاستراتيجية من البلاد، كونها تتحكم في أكثر من 70% من حركة التجارة الخارجية للسودان.
وبينما كانت الأوضاع تزداد سخونة في تلك المنطقة الحيوية، عصب الاقتصاد الوطني، فضلا عن دلالاتها السياسية والأمنية الخطيرة على استقرار البلاد وأمنها، وقفت القوات المسلحة بشتى مكوناتها مكتوفة الأيدي، تترقب ما يحدث من سجالات واتهامات للحكومة وتشويه لقيمتها وتقليل من شأنها، بل وصل الأمر إلى رفع شعار "إقالة الحكومة" دون أي تحرك من قبل قوات الأمن، وهي علامة الاستفهام الكبيرة التي ربما لا تحتاج لإجابة.
دعم المؤسسة العسكرية لهذا التحالف الجديد المنشق عن الكيان الحالي، كان مثار جدل هو الأخر، حيث أشار المستشار الإعلامي للقائد العام للقوات المسلحة عبد الفتاح البرهان، العميد طاهر أبو هاجة، "أن العودة إلى منصة تأسيس "قوى الحرية والتغيير" هي عودة إلى الحق والتوافق الوطني الشامل" لافتًا إلى أن "من يرفضون العودة إلى المنصة ستتجاوزهم الأحداث ولن يستطيعوا الوقوف في وجه ما وصفه بالتيار الجماهيري الجارف الذي يعبر عن إرادة الشعب".
المستشار الإعلامي للبرهان فجًر مفاجأة من العيار الثقيل، كاشفًا من خلاله نوايا الجنرالات الحقيقية من وراء دعم هذا التحالف الوليد، قائلا إن " التيار الجماهيري الجارف يرفض أن يكون مصير الثورة في يد قلة تحتكر الفرص وتقود البلاد وفقا لأهوائها"، حسب وصفه، مضيفًا أن "الشارع بحراكه ولجان مقاومته، لن يضيع وقتا أكثر من الذي مضى، فالجميع متمسكون بضرورة تكملة هياكل السلطة السياسية والتنفيذية والدستورية وفق خريطة طريق تنقذ اقتصاد البلاد وتنهض به"
الشارع لمن؟
من الواضح أن هناك تسابق كبير بين العسكر والمدنيين على الظفر بدعم الشارع، كلمة السر في تغليب أي من الكفتين، وهو ما يمكن قراءته في مساعي الطرفين لاستمالته قدر الإمكان، سواء عن طريق مغازلته ببعض القرارات أو تشويه الطرف الثاني بما يصب بالتبعية في صالح الطرف الأخر.
المسيرات التي دعت إليها لجان المقاومة وتجمع المهنيين، الخميس 27 سبتمبر/أيلول الماضي، كشفت النقاب عن حالة الانقسام التي يعاني منها الشارع السوداني، سواء في معدلات الاستجابة ودوافعها من جانب، أو من خلال تفسير التجاوب لدى كل طرف على حدة.
فبينما يعزف أنصار الحرية والتغيير على أن الخروج جاء دعما للمسار الديمقراطي والحكم المدني، وحث الحكومة الحالية على السير قدما في طريقها نحو تولي السلطة في نوفمبر/تشرين الثاني القادم، يعتبر العسكريون أن الخروج الكبير الذي شهدته شوارع العاصمة وبعض المناطق المحيطة رسالة انتقاد وتحذير للحكومة، وأن السبب الرئيسي وراء تلك الجموع الغفيرة هو حالة الاحتقان المسئول عنها حمدوك ورفاقه بفشلهم في تلبية الحد الأدنى من مطالب الشارع.
القراءة المتناقضة لمواكب السابع والعشرين من سبتمبر/أيلول وما تلاها من موجات ودعوات ثورية أخرى خلال الأيام الماضية، والمتوقع أن تستمر لأيام قادمة، تشير إلى رغبة كلا المكونين في توظيف المشهد لصالحه، إيمانًا منه بالدور الكبير للشارع في رسم المستقبل السياسي خلال الفترة المقبلة.
وبعيدًا عن أنغام ليلى التي يغني علي أوتارها المكونين، فإن الشارع حينما خرج كان تجديدًا لتأكيده السابق بأنه ماضٍ لتحقيق أجندة وشعارات ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، وأن لديه أهداف محددة لن يتوانى عن تحقيقها، ويمتلك قدرة فائقة على تصويب وتقويم أي جهة ،عسكريين أو مدنيين، تنحرف عن المسار الصحيح للثورة.
جراحة عاجلة
الوضعية الحرجة التي بات عليها المشهد السياسي الحالي لاشك وأنها تضع مستقبل الحكومة الحالية على المحك، وتضع المكون المدني في مهب الريح، وسواء كان ذلك بإيعاز من العسكريين أو لفشل المدنيين في إدارة المرحلة، إلا أن الأمر يحتاج إلى جراحة عاجلة قبل فوات الأوان.
العقلاء من النخبة السودانية يحذرون من استغلال حالة الاحتقان الشعبي ضد الأوضاع المعيشية المتدنية لإرباك المشهد السياسي، في ظل وجود الكثير من المتربصين والمستفيدين من تسخين الأجواء، سواء فلول نظام الإنقاذ أو بعض الحالمين من الجنرالات بقيادة الدفة، بجانب الكيانات المستبعدة من التشكيل السياسي عقب ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، هذا بخلاف حلف الثورات المضادة الذي لا يدخر جهدًا، ماليًا كان أو سياسيًا، لإفشال أي حراك ثوري، كما فعل في العديد من عواصم الربيع العربي الأخرى.
وأمام شبح الفوضى وخشية عودة عقارب الساعة لما قبل 2018 طالب البعض بضرورة التدخل لوقف نزيف الانقسام وتضميد جراح التشتت داخل الجسد المدني في السلطة الانتقالية للبلاد، داعين بعض شيوخ السياسة وكبار النخبة إلى التوسط بين تحالف قوى الحرية والتغيير والكيان المنشق عنه والمدشن مؤخرًا، للوصول إلى نقاط مشتركة من شأنها تخفيف حدة التوتر وتجميد حالة التناطح السياسي بينهما.
الدعوات هنا تذهب إلى ضرورة إعادة النظر في استراتيجيات إدارة قوى الحرية والتغيير للمرحلة، والعودة إلى الخلف خطوات قليلة، لإفساح المجال لتوسعة دائرة المشاركين في السلطة، وطي صفحة الاستئثار وفق أجندات طائفية أو عرقية، والعمل على استيعاب كافة الأطياف السياسية المنضوية تحت لواء الثورة، وإعادة اللحمة لهذا الكيان مرة أخرى، وسد جميع الثغرات التي يستغلها المتربصون لإحداث شروخات به تمهيدًا لإسقاطه بما يدعم بنيان العسكر الذي يسعى قدر الإمكان لإظهار تماسكه رغم الخلافات المحورية بين تياراته.
يقولون في كرة القدم أن من يضيع الكثير من الفرص لابد وأن تستقبل شباكه الأهداف، والكرة الأن في ملعب المكون المدني الذي بات مطالبًا بتحديد مساره، إما المضي في طريقه دون علاج الجروح الغائرة التي تنزف من رصيده السياسي، وعليه حينها تحمل تبعات ذلك، أو الاستفادة من تجارب التاريخ وتفويت الفرصة على الجنرالات والفلول معًا.. فهل يعي المدنيون الدرس قبل انطلاق صافرة الحكم؟