القرآن الكريم، واللغة العربية، والتعليم:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
منذ فترة، نشرتُ صورة لى مع زملاء بالمدرسة الابتدائية، فى رحلة إلى القناطر الخيرية أول خمسينيات القرن الماضى، وأشرت إلى موقعى بين الزملاء بأنى الذى يمسك بيده مجلة المصور، والتى كانت أشهر وأهم مجلة أسبوعية عامة فى الوطن العربى فى ذلك الوقت، حيث كان يرأس تحريرها فكرى أباظة( باشا)، فعلقت قارئة باندهاشها من أن يمسك تلميذ ابتدائى بمثل هذه المجلة، ويقرأها.
وقتها علقت مُنَبها القارئة بأن أجيالنا ، عندما كانت تلتحق بالتعليم الابتدائى، يكون ذلك، بعد قضاء فترة سابقة فيما كان يُعرف ب" الكُتّاب" ، لمذاكرة القرآن الكريم وحفظ أجزاء منه أو كله، وبالتالى يكون قد تمكّن من اللغة العربية، مما يجعل عملية القراءة بعد ذلك ، فى أى مصدر، عملية يسيرة للغاية..
ولسنا بحاجة إلى شرح وتفصيل للدور الخطير للتمكن من لغة التعليم فى الفهم والاستيعاب..
والقرآن ، كما هو معروف، إذا كان وعاء لما يصعب حصره من مبادئ وتعليم وقواعد وتشريعات، تشكل الدين الإسلامى، فله ، كما هو معروف أيضا، معماره اللغوى الذى يستحيل على أحد أن يأتى بمثله..
ومن هنا فإن المستشرقين، حرصوا على قراءته وفهمه، حتى يستطيعوا فهم العقيدة الإسلامية، بل وةفهم مسار الحضارة الإسلامية عبر قرون عدة، دون أن يعنى هذا ضرورة اعتناقهم للإسلام.
ولم نذهب بعيدا، وكان عندنا زعيم سياسى مصرى عريق، قبطى الديانة، وهو مكرم عبيد، المسمى باسمه شارع مهم فى مدينة نصر، ، حرص على حفظ القرآن، دون أن يجد فى ذلك غضاضة بالنسبة لديانته، ونُقل عنه قوله ( أنا مسلم الثقافة، قبطى الديانة ) ، فى تفرقة ذكية، بين الإسلام كثقافة وحضارة ولغة، وبينه كعقيدة..
لقد هداه ذكاؤه ، ما دام زعيما سياسية، ومحاميا بارزا، إلى أن، تمكنه من عماد الثقافة العربية الإسلامية، ضرورى لممارسة الزعامة السياسية فى مجتمع عربى مسلم، فى غالبيته، وكذلك ممارسة المحاماة..
ووقائع التاريح التربوى العربى الإسلامى، عرفت إرسال بعض الأقباط لأطفالهم إلى ( الكُتّاب) لإتقان لغة البلاد والثقافة، دون أن يعتبروا ذلك مساسا بعقيدتهم..
وقد سبق أن رويت ، منذ سنوات، تجربة أستاذ طرق تدريس إنجليزى بتربية الكويت، اتفق مع زوجته، عندما أنجبا طفلا ، على أن يحرصا على التخاطب بالعربية الفصيحة معه، فإذا به يلتقطها ، ويمارسها بسهولة ويسر، فلما التحق بالمدرسة الابتدائية برزت مشكلة، وهى أنه كان يمسك بأى كتاب مقرر ويستوعبه فى أسابيع قليلة، ما دام قد تمكن من أللغة العربية الفصيحة.
وهكذا، فالتعامل مع القرآن، لا يعنى بالضرورة انحيازا دينيا، بل انحيارزا لغويا، فى مجتمع لغته القومية هى اللغة العربية.
والمشكلة قد تظهر فيمن يختارون الآيات القرآ،ية المستشهد بها، فبعض قصار النظر يمكن أن يختاروا آيات تمس العقائد الأخرى، وليس هذا محتما، ففى القرآن الكثير من الآيات المتضمنة لمكارم الأخلاق ، والجدال بالتى هى أحسن، ومقومات الشخصية السوية، وضرورة ممارسة العمل، فضلا عن الإعمار والتنمية، والترابط بين الناس، وحرية التفكير والتدين..
قارنوا بين لغة وفهم وثقافة الأجيال السابقة التى سبق تعلم كثيرين منهم أجزاء من القرآن، ككتاب معيارى للغة العربية، وكيف أتاح لهم هذا: النبوغ الأدبى والثقافى، وعلى العكس من ذلك، كيف أدى التدنى بمستوى اللغة العربية المعاصر إلى تراجع مؤسف فى عموم الثقافة، حيث هى قناة الفهم والاستيعاب..
ولو صففنا عددا من الدول المتقدمة، وصففنا أمامها لغة التعليم فيها، سوف نجد اقترانا مدهشا بين مستوى التقدم العام وبين التعليم باللغة القومية..ولن تجد مثل القرآن الكريم، وسيطا معجزا لإتقان اللغة القومية..
ألا هل بلغت؟. اللهم فاشهد..