تزييف التاريخ لصالح من؟!
الخديوى إسماعيل نموذجاً.
بقلم : عـــمرو صـــابح
تصاعدت مؤخرا أصوات البعض للمطالبة بالكشف عن حقيقة تاريخنا ، ومدى ما أصابه من محاولات للتزييف وتغيير وقائعه لصالح حاكم معين أو حقبة تاريخية محددة ، والحقيقة ان هناك بالفعل حملات لتزييف التاريخ شهدتها مصر عبر تاريخها الطويل ولنأخذ كمثال تاريخ الخديوى إسماعيل.
كان لدى الملك فؤاد الأول مشروع لغسيل سمعة تاريخ الأسرة العلوية عبر محو كل سقطات ومخازى من حكموا من أسرته لذا قام بحجب كل الوثائق التاريخية والمكاتبات الرسمية وأوراق الدولة المصرية عن الباحثين والمؤرخين المصريين بينما قام بإتاحتها للمؤرخ الإيطالى الفاشستى انجلو ساماركو الذى كلفه الملك فؤاد بوضع كتاب من 4 أجزاء عن تاريخ مصر الحديث منذ عهد محمد على حتى عهد توفيق ،كما وضع الملك فؤاد تحت تصرف المؤرخ الفرنسى جورج دوا ألاف الوثائق والمكاتبات الرسمية المصرية كما وفر له أفضل مترجمى مصر فى اللغات الفرنسية والتركية والعربية لمعاونته.
فكرة تزييف التاريخ كانت حاضرة دوماً فى ذهن الملك فؤاد ، ويبدو انها انتقلت عبر الزمن لأنصار الملكية ومن يسيرون على دربهم من مزورى التاريخ.
الخديوى إسماعيل والد الملك فؤاد من أكثر الشخصيات التى نجحت عملية تبييض تاريخها عبر إظهاره كحاكم مستنير قوى محب لمصر ، بينما الحقيقة ان الخديوى إسماعيل صرح فى ثانى يوم لتوليه عرش مصر قائلاً:
" أنا قنالى أكثر من سلفى سعيد باشا بل أكثر من مسيو دليسبس نفسه ".
ويقول إسماعيل أيضاً :
" لو لم أكن والياً على مصر لكان يجب أن أكون سمساراً"!!
والحقيقة انه كان سمساراً فعلا ولكن سمسار فاشل.
مصر بعد عقود من حكم جده محمد على مازالت تعانى من الفقر والجهل والمرض ، ولكن إسماعيل سيحولها لقطعة من أوروبا!!
كيف؟!!
ببناء القصور .. قصر فى الجزيرة بالقاهرة على غرار قصر الحمراء الأندلسى ، قصر فى الجيزة ، قصر فى القبة ، قصر فى الإسماعيلية لاستقبال ضيوف إسماعيل فى حفل افتتاح القنال.
سيقيم الخديوى مسرحاً لألعاب الفروسية ، وداراً للأوبرا فى القاهرة ، وسيدفع مليون فرنك فرنسي لكى يتم وضع أوبرا عايدة خصيصا لكى تبدأ بها أولى حفلات الأوبرا الخديوية.
إسماعيل لا يعجبه لقب والى ويريد أن يصبح خديوى ، وأن ينقل ولاية العهد لأبناءه ، لذا سيذهب للأستانه وسيدعو السلطان العثمانى لمأدبة طعام فاخرة وبالغة الضخامة ، كل الأوانى المستخدمة فيها مصنوعة من الذهب وتم تصميمها خصيصاً للمأدبة السلطانية ، وفى نهاية الوليمة سيقوم إسماعيل بإهداء كل الأوانى الذهبية للسلطان العثمانى ، ولكن السلطان لن يكتفى بالأوانى سيفرض على إسماعيل دفع 20 مليون جنيه جزية له مقابل لقب " الخديوى" ونقل ولاية العهد لسلالة إسماعيل ، ووزراء السلطان أيضاً سيدفع لهم إسماعيل رشاوى فاقت 2 مليون جنيه من أجل كسبهم إلى صفه.
بعد وفاة 120 ألف مصرى فى حفر قناة السويس بالسخرة ، يقرر إسماعيل إقامة حفل أسطورى لإفتتاح القناة الجديدة ، ويدعو له 3 ألاف شخص من أوروبا للحضور والإقامة والاحتفال على حساب المصريين ، يشترى إسماعيل لضيوفه بواخر خاصة ليستخدمونها خلال رحلاتهم فى نهر النيل ، ويبنى لهم إضافة للفنادق 8 قصور فاخرة ، ويستورد لهم من بوردو بفرنسا حمولة سفينة كاملة من الخمور المعتقة ، بل وصل كرم إسماعيل لدرجة صرف البقشيش إلى ضيوفه لكى يقوموا بدفعه لمن يقواموا بخدمتهم!!.
السفه الإسماعيلى جعل الشاعرة الفرنسية لويز كوليت التى حضرت الاحتفال تقول : يا إلهى .. لم أرى فى حياتى مثل ما يحدث مطلقاً .. إننى أعيش فى عالم ألف ليلة وليلة.
صرف إسماعيل فى ليلة واحدة خلال الاحتفال مليوناً وأربعمائة ألف جنيه ، وهو ما يعادل ثلث ميزانية الدولة المصرية كلها فى عام ، بينما ميزانية التعليم فى عهده فى عموم مصر كلها كانت تعادل مرتبات 12 موظف أوروبى يعملون فى مصر!!!
فى نوفمبر عام 1875 بعد 6 سنوات فقط من حفل الافتتاح الأسطوري لقناة السويس ، وبسبب إفلاس الخزانة المصرية سيقوم الخديوي إسماعيل ببيع حصة مصر من الأسهم فى قناة السويس وكانت تبلغ 44% من أسهم القناة للحكومة البريطانية مقابل 4 مليون جنيه استرليني!!
لتسديد ديون مصر التى تسبب فيها الخديوى بسفهه ، بدأ إسماعيل يبحث عن الأموال من المصريين ، ففرض مزيداً من الضرائب على الفلاحين مما جعلهم يهربون من أراضيهم ، وأمر بتوزيع سلع عينية على الموظفين بدلاً من رواتبهم لعدم توافر أموال صرف الرواتب ، ثم عندما انعدمت الأموال تماما توقف إسماعيل عن دفع رواتب الموظفين فى مصر لمدة 18 شهر.
فى عام 1878 ضربت المجاعة مصر ، ومات بسببها 10 ألاف مواطن مصرى فى صعيد مصر من الجوع.
فرض الخديوى اسماعيل ضرائب باهظة وكثيرة حتى أنه فرض ضريبة على الزواج والوفاة ، فلم تكن جنازة ميت تمر ، إلا وقد وقف القواصون والجباه على رأس الميت فلا يدفن إلا بعد دفع أهله ضريبة الوفاة ، وكان صياح الناس يعلو بـ : " لعن الله الخديوى".
بينما يعانى المصريون من الجوع والفقر والمرض والضرائب الباهظة ، كان هناك جيش ضخم من الموظفين الأوروبيين فى حكومة إسماعيل يتقاضون رواتبهم الضخمة كاملة بانتظام.
احتل الإنجليز مصر فعلياً فى عهد إسماعيل قبل أن تطأ جيوشهم الأراضى المصرية فى عهد ابنه توفيق ، كان قائد ميناء الإسكندرية إنجليزياً ، ومدير الجمارك إنجليزى ، ومرفق السكك الحديدية يديره الإنجليز ، ومصلحة البريد يرأسها إنجليزى ، والبواخر التى تمخر عباب النيل مملوكة لشركة ملاحة إنجليزية ، والفلاحون المصريون ضاعت أموالهم وأراضيهم بسبب الفقر والمجاعة ووقعت فى يد مرابين إنجليز .
أراد الخديوي إسماعيل أن يمد نفوذه إلى أفريقيا خاصة بعد أن وضعت معاهدة لندن 1840 فيتو أوروبي على التوسع المصري فى الشرق ، فعمل على تجهيز حملة لاكتشاف منابع نهر النيل ، وفى مواجهة تزايد الضغط الفرنسي عليه قرر الاستعانة بالبريطانيين!!!
قام الخديوي إسماعيل بتجهيز حملة لغزو أوغندا ، وعين لقيادتها رحالة وضابط إنجليزي يهودي الديانة اسمه " صامويل بيكر " .
وصل بيكر لمنابع نهر النيل واكتشف بحيرة كبرى هناك فى عام 1863 ، وأطلق عليها اسم ألبرت نسبة إلى الأمير ألبرت زوج فيكتوريا ملكة بريطانيا ، وفى 26 مايو من عام 1871 أسس بيكر مديرية خط الاستواء ورفع عليها العلمان المصري والبريطاني ، وقام الخديوي إسماعيل بتعيينه حاكماً للمديرية.
في عام 1874 أرسل الإنجليز للخديوى إسماعيل ، الضابط الإنجليزي " تشارلز جورج جوردون " بديلاً لصامويل بيكر كحاكم لمديرية خط الاستواء.
قام جوردون بمنع الحملة المصرية من الوصول إلى مياه "بحيرة فيكتوريا" خوفاً من وصول المسلمين إلى تلك المناطق وأن يقوموا بنشر الإسلام بين الأفارقة ، واستطاع جوردون إدخال تلك المناطق تحت نفوذ بريطانيا ، ولم يكتف جوردون ذلك بل قام بإرسال بعثة مسيحية تبشيرية إلى ملك أوغندا 'موتيسا' لكي تحول دون دخوله في الإسلام وتدعوه إلى اعتناق النصرانية ، ووبعد كل ذلك قرر الخديوي إسماعيل تعيين 'جوردن' حاكماً عاماً للسودان مكافأة له؟!!
استغل جوردون منصبه كحاكم للسودان فى بث الفوضى وإثارة الاضطرابات والفتن والإساءة إلى زعماء القبائل السودانية وتحريضهم ضد الحكم المصري للسودان حتى يشعر السكان بفساد الحكم المصري ويطلبون الانضواء تحت السيطرة الإنجليزية ، ونجحت مؤامرات جوردون فاندلعت الثورة المهدية فى السودان والتى انتهت بقيام الحكم الثنائي البريطاني المصري للسودان بعد توقيع اتفاقية 1899 التى فصلت السودان عن مصر.
استمع الخديوي إسماعيل لنصائح مستشاريه الأجانب ، وقرر غزو الحبشة ، فشن حملة طويلة ضد الأحباش امتدت ما بين عامى 1868 و1876 ، وانتهت بخسائر مادية وبشرية ضخمة ، وبهزيمتين ساحقتين للجيش المصرى الذى جعل الخديوى قادته من الأوروبيين .
تلقى الجيش المصرى بقيادة العقيد الدنماركي المرتزق سورن آرندروب هزيمة ساحقة فى معركة جوندت فى 18 نوفمبر 1875 ، أدت لإبادة القوات المصرية عدا 300 فرد فقط ، ثم فى معركة جورا فى الفترة من 7 إلى 9 مارس 1876 ، عندما تعرضت القوات المصرية التى كان يقودها الجنرال الأمريكى ويليام لورنج باشا لهزيمة ساحقة مجدداً، بل قام الأحباش بقتل 600 أسير مصرى ذبحاً.
تخليداً لانتصار إثيوبيا على مصر فى معركة جوندت ، أطلقت الحكومة الإثيوبية اسم جوندت على أعلى وسام عسكرى إثيوبى.
كانت تكلفة كل حملات الخديوي إسماعيل الأفريقية على حساب الخزانة المصرية وقد ساهمت فى إفلاس مصر ، وأدت لزيادة وتوطيد النفوذ البريطاني فى قارة أفريقيا.
الخديوي اسماعيل حكم مصر لمدة 16 سنة (1863 – 1879) والديون التي اقترضها ليجعل مصر قطعة من أوروبا ، ظلت مصر تسددها حتي عام 1942.
يقول دافيد لاندز فى كتابه " بنوك وباشوات ":
(إن شخصية إسماعيل، الخديوي الأول، تمثل إحدى المسائل الجدلية المسلية المثيرة في مصر.
فبعد ثلاثة عشر عاما من توليه العرش، ارتفع الدين القومي في مصر من ثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف جنيه إلى واحد وتسعين مليون جنيه!
وفي سنة 1876 أفلست مصر، وأصبحت ضحية سهلة للسيطرة الأجنبية.
ومثلما فعل فاروق أبحر إسماعيل إلى إيطاليا، واستطاع في النهاية أن يحصل على إذن بالاستقرار في قصره على البوسفور، حيث مات في 1895.
لقد عاش إسماعيل حتى رأى بلاده تدار في كفاءة لمصلحة حملة الأسهم الأجانب، ورأى شركة القناة تزدهر فوق كل خيال لصالح الأجانب
أما الشيء الوحيد الذي لم يتغير فهو مصر وشعبها. فما زالت هناك الأرض والفلاح الكادح يعيش في قذارة وفقر لا مثيل لهما حتى في الهند أو الصين).
هذا غيض من فيض التاريخ الأسود للخديوى إسماعيل ، والذى يجرى تصويره كحاكم وطنى مستنير محب لمصر والمصريين.
من الذى يزيف تاريخنا ؟!!
ولمصلحة من؟!!
----
المصادر:
- السخرة فى حفر قناة السويس .. د.عبد العزيز الشناوى.
- عصر إسماعيل - جزءان .. عبد الرحمن الرافعى.
- مذكرات عرابى .. الزعيم أحمد عرابى.
- متمردون لوجه الله : محمود عوض.
- أفندينا يبيع مصر : محسن محمد.
- طوائف الحرف في مدينة القاهرة : نبيل الطوخي.